كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبمعونة هذه الإشارة ودلالة قوله في الآية التالية: {فلما جن عليه الليل} الدالة على ارتباط ما بعده بما قبله يظهر أن قوله: {نرى} لحكاية الحال الماضية كقوله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} [القصص: 5].
فالمعنى: أنا أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض فبعثه ذلك أن حاج أباه وقومه في أمر الأصنام وكشف له ضلالهم، وكنا نمده بهذه العناية والموهبة وهى إراءة الملكوت وكان على هذه الحال حتى جن عليه الليل وراى كوكبا.
وبذلك يظهر أن ما يتراءى من بعضهم: أن قوله: {وكذلك نرى} الخ، كالمعترضة لا يرتبط بما قبله ولا بما بعده، وكذا قول بعضهم: إن إراءة الملكوت أول ما ظهر من أمرها في إبراهيم عليه السلام أنه لما جن عليه الليل راى كوكبا الخ، فاسد لا ينبغى أن يصار إليه.
وأما ملكوت السماوات والأرض فالملكوت هو الملك مصدر كالطاغوت والجبروت وإن كان آكد من حيث المعنى بالنسبة إلى الملك كالطاغوت والجبروت بالنسبة إلى الطغيان والجبر أو الجبران.
والمعنى الذي يستعمله فيه القرآن هو المعنى اللغوى بعينه من غير تفاوت كسائر الالفاظ المستعملة في كلامه تعالى غير أن المصداق غير المصداق وذلك ان الملك والملكوت وهو نوع من السلطنة إنما هو فيما عندنامعنى افتراضى اعتباري بعثنا إلى اعتباره الحاجة الاجتماعية إلى نظم الأعمال والافراد نظما يؤدى إلى الأمن والعدل والقوه الاجتماعيات وهو في نفسه يقبل النقل والهبة والغصب والتغلب كما لا نزال نشاهد ذلك في المجتمعات الإنسانية.
وهذا المعنى على أنه وضعي اعتباري وإن أمكن تصويره في مورده تعالى من جهة أن الحكم الحق في المجتمع البشرى لله سبحانه كما قال تعالى: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] وقال: {له الحمد في الأولى والاخرة وله الحكم} [القصص: 70] لكن تحليل معنى هذا الملك الوضعي يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتا غير قابل للزوال والانتقال كما أن الواحد منا يملك نفسه بمعنى أنه هو الحاكم المسلط المتصرف في سمعه وبصره وسائر قواه وأفعاله بحيث إن سمعه إنما يسمع وبصره إنما يبصربتبع إرادته وحكمه لا بتبع إراردة غيره من الاناسى وحكمه وهذا معنى حقيقي لا نشك في تحققه فينا مثلا تحققا لا يقبل الزوال والانتقال كما عرفت فالانسان يملك قوى نفسه وأفعال نفسه وهى جميعا تبعات وجوده قائمة به غير مستقلة عنه ولا مستغنية عنه فالعين إنما تبصر بإذن من الإنسان الذي يبصر بها وكذا السمع يسمع بإذن منه، ولولا الإنسان لم يكن بصر ولا إبصار ولا سمع ولا استماع كما أن الفرد من المجتمع إنما يتصرف فيما يتصرف فيه بإذن من الملك أو ولى الأمر، ولو لم تكن هذه القوإ المدبرإ التي تتوحد عندها أزمة المجتمع لم يكن اجتماع، ولو منع عن تصرف من التصرفات الفردية لم يكن له أن يتصرف ولا نفذ منه ذلك، ولا شك أن هذا المعنى بعينه موجود لله سبحانه الذي إليه تكوين الاعيان وتدبير النظام فلا غنى لمخلوق عن الخالق عز اسمه لا في نفسه ولا في توابع نفسه من قوى وأفعال، ولا استقلال له لا منفردا ولا في حال اجتماعه مع سائر أجزاء الكون وارتباط قوى العالم وامتزاج بعضها ببعض امتزاجا يكون هذا النظام العام المشاهد.
قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26] وقال تعالى: {لله ملك السماوات والأرض} [المائدة: 120] وقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة} إلى أن قال: {الذى خلق سبع سماوات طباقا} [الملك: 3] والآيات- كما ترى- تعلل الملك بالخلق فكون وجود الأشياء منه وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالى هو الملاك في تحقق ملكه وهو بمعنى ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره ولا يزول عنه إلى غيره ولا يقبل نقلا ولا تفويضا يغنى عنه تعالى وينصب غيره مقامه.
وهذا هو الذي يفسر به معنى الملكوت في قوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} [يس: 83] فالآية الثانية تبين أن ملكوت كل شيء هو كلمة كن الذي يقوله الحق سبحانه له، وقوله فعله، وهو إيجاده له.
فقد تبين أن الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به، وهذا أمر لا يقبل الشركة ويختص به سبحانه وحده، فالربوبية التي هي الملك والتدبير لا تقبل تفويضا ولا تمليكا انتقاليا.
ولذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدى الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية كما قال تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأى حديث بعده يؤمنون} [الأعراف: 185].
والآية- كما ترى- تحاذى أول سورة الملك المنقول آنفا.
فقد بان أن المراد بإراءة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض على ما يعطيه التدبر في سائر الآيات المربوطة بها هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه، وإذ كان استنادا لا يقبل الشركة لم يلبث دون أن حكم عليها أن ليس لشيء منها أن يرب غيره ويتولى تدبير النظام وإداء الأمور فالاصنام تماثيل عملها الإنسان وسماها اسماء لم ينزل الله عليها من سلطان، وما هذا شأنه لا يرب الإنسان ولا يملكه وقد عملته يد الإنسان، والاجرام العلوية كالكوكب والقمر والشمس تتحول عليها الحال فتغيب عن الإنسان بعد حضورها، وما هذا شأنه لا يكون له الملك وتولى التدبير تكوينا كما سيجئ بيانه.
قوله تعالى: {وليكون من الموقنين} اللام للتعليل، والجملة معطوفة على أخرى محذوفة والتقدير: ليكون كذا وكذا وليكون من الموقنين.
واليقين هو العلم الذي لا يشوبه شك بوجه من الوجوه، ولعل المراد به ان يكون على يقين بآيات الله على حد ما في قوله: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] وينتج ذلك اليقين بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا.
وفي معنى ذلك ما أنزله في خصوص النبي صلى الله عليه وآله قال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} [الاسراء: 1] وقال: {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 18] وأما اليقين بذاته المتعالية فالقرآن يجله تعالى ان يتعلق به شك أو يحيط به علم وإنما يسلمه تسليما.
وقد ذكر في كلامه تعالى من خواص العلم اليقيني بآياته تعالى إنكشاف ما وراء ستر الحس من حقائق الكون على ما يشاء الله تعالى كما في قوله: {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم} [التكاثر: 6] وقوله: {كلا إن كتاب الابرار لفى عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون} [المطففين: 21].
قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى} إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات: أصل الجن (بفتح الجيم) ستر الشيء عن الحاسة يقال: جنه الليل وأجنه وجن عليه: فجنه ستره، وأجنه جعل له ما يجنه كقولك: قبرته وأقبرته وسقيته وأسقيته، وجن عليه كذا ستر عليه قال عز وجل: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا}، انتهى فجن الليل إسداله الظلام لا مجرد ما يحصل بغروب الشمس.
وقوله: {فلما جن عليه الليل} تفريع على ما تقدم من نفيه ألوهية الأصنام بما يرتبطان بقوله: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} ومحصل المعنى على ذلك أنا كنا نريه الملكوت مالاشياء فأبطل الوهية الأصنام إذ ذاك، ودامت عليه الحال فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال كذا وكذا.
وقوله: {رأى كوكبا} كأن تنكير الكوكب إنما هو لنكتة راجعة إلى مرحلة الاخبار والتحدث فلا غرض في الكلام يتعلق بتعيين هذا الكوكب وأنه أي كوكب كان من السيارات أو الثوابت لأن الذي أخذه في الحجاج يجرى في أي كوكب من الكواكب يطلع ويغرب لا أن إبراهيم عليه السلام أشار إلى كوكب ما من الكواكب من غير ان يمتاز بأى مميز مفروض: أما أولا فلان اللفظ لا يساعده فلا يقال لمن أشار إلى كوكب بين كواكب لا تحصى كثره فقال: {هذا ربى} إنه رأى كوكبا قال هذا ربى، وأما ثانيا فلان ظاهر الآيات أنه كان هناك قوم يعبدون الكوكب الذي أشار إليه وقال فيه ما قال، والصابئون ما كانوا يعبدون أي كوكب ولا يحترمون إلا السيارات.
والذى يؤيده الاعتبار أنه كان كوكب الزهرة، وذلك لأن الصابئين ما كانوا يحترمون وينسبون حوادث العالم الارضى إلا إلى سبعة من الاجرام العلوية التي كانوا يسمونها بالسيارات السبع: القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل وإنما كان اهل الهند هم الذين يحترمون النجوم الثوابت وينسبون الحوادث إليها، ونظيرهم في ذلك بعض أرباب الطلسمات ووثنية العرب وغيرهم.
فالظاهر ان الكوكب كان أحد السبعة والقمر والشمس مذكوران بعد، وعطارد مما لا يرى إلا شاذا لضيق مداره فقد كان احد الاربعة: الزهرة، والمريخ والمشترى، وزحل، والزهرة من بينها هي الكوكبة الوحيدة التي يمنعها ضيق مدارها ان تبتعد من الشمس أكثر من سبع واربعين درجة، ولذلك كانت كالتابعة الملازمة للشمس فأحيانا تتقدمها فتطلع قبيل طلوعها وتسمى عند العامة حينئذ نجمة الصباح ثم تغيب بعد طلوعها، واحيانا تتبعها فتظهر بعد غروب الشمس في أفق المغرب ثم لا تلبث إلا قليلا في أول الليل دون ان تغيب، وإذا كانت على هذا الوضع والليلة من ليالى النصف الاخير من الشهر القمرى كليلة ثمانى عشرة وتسع عشرة والعشرين فإنها تجامع بغروبها طلوع القمر فترى أن الشمس تغرب فتظهر الزهرة في الافق الغربي ثم تغرب بعد ساعة أو ساعتين مضتا من غروب الشمس ثم يطلع القمر عند ذلك أو بعد ذلك بيسير.
وهذه الخصوصية من بينها إنما هي للزهرة بحسب نظام سيرها وفي غيرها كالمشترى والمريخ وزحل أمر اتفاقى ربما يقع في أوضاع خاصه لا يسبق إلى الذهن فيشبه من هنا ان الكوكب كان هو الزهرة.
على ان الزهرة أجمل الكواكب الدرية وأبهجها وأضواها أول ما يجلب نظر الناظر إلى السماء بعد جن الليل وعكوف الظلام على الافاق يجلب إليها.
وهذا أحسن ما يمكن ان تنطبق عليه الآية بحسب ما يتسابق إلى الذهن من قوله: فلما جن عليه الليل راى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل- إلى ان قال- فلما رأى القمر بازغا (الخ) حيث وصل ظاهرا بين أفول الكوكب وبزوغ القمر.
ويتأيد هذا الذي ذكرناه بما ورد في بعض الروايات عن أئمة اهل البيت عليه السلام ان الكوكب كان هو الزهرة.
وعلى هذا فقد كان عليه السلام رأى الزهرة والقوم يتنسكون بواجب عبادتها من خضوع وصلاة وقربان، كانت الزهرة وقتئذ تتلو الشمس في غروبها، والليلة من ليالى النصف الاخير من الشهر القمرى جن عليه الليل فرأى الزهرة في الافق الغربي حتى أفلت فرأى القمر بازغا بعده.
وقوله تعالى: {قال هذا ربى} المراد بالرب هو مالك الأشياء المربوبين، المدبر لامرهم لا الذي فطر السماوات والأرض وأوجد كل شيء بعد ما لم يكن موجودا فإنه الله سبحانه الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا يحويه مكان ولا يقع عليه إشارة، والذى يظهر مما حكى من كلام إبراهيم مع قومه في أمر الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه وله من العلم بالله وآياته ما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم والتمثل والمحدودية، قال تعالى حكاية عنه في محاورة له مع أبيه: {يا أبت إنى قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا} إلى آخر الآيات (مريم: 43) على ان الوثنيين والصابئين لا يثبتون لله سبحانه شريكا في الايجاد يكافئ بوجوده وجوده تعالى بل إنما يثبتون الشريك بمعنى بعض من هو مخلوق لله مصنوع له ولا أقل مفتقر الوجود إليه فوض إليه بعد تدبير الخليقة كإلهة الحسن وإله العدل وإله الخصب أو تدبير بعض الخليقة كاله الإنسان أو إله القبيله أو إله يخص بعض الملوك والاشراف وقد دلت على ذلك آثارهم المستخرجة وأخبارهم المروية، والموجودون منهم اليوم على هذه الطريقة فقوله عليه السلام بالإشارة إلى الكوكب: {هذا ربى} أراد به إثبات أنه رب يدبر الأمر لا إله فاطر مبدع.
وعليه يدل ما حكى عنه في آخر الآيات المبحوث عنها: {قال يا قوم إنى برئ مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أن لا شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى.
فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه عليه السلام سلم أن لجميع الأشياء إلها فاطرا واحدا لا شريك له في الفطر والايجاد وهو الله تعالى، وأن للإنسان ربا يدبر أمره لا محالة، وإنما يبحث عن أن هذا الرب المدبر للامر أهو الله سبحانه وإليه يرجع التدبير كما إليه يرجع الايجاد أم أنه بعض خلقه أخذه شريكا لنفسه وفوض إليه أمر التدبير.
وفي إثر ذلك ما كان منه عليه السلام من افتراض الكوكب الذي كانوا يعبدونه ثم القمر ثم الشمس والنظر في أمر كل منها هل يصلح لأن يتولى أمر التدبير وإدارة شئون الناس؟.
وهذا الافتراض والنظر وإن كان بحسب طبعه قبل العلم اليقيني بالنتيجة فإن النتيجة فرع يتأخر طبعا عن الحجة النظرية لكنه لا يضر به عليه السلام فإن الآيات كما استفدناه فيما تقديم تقص أول أمر إبراهيم والإنسان في أول زمن يأخذ بالتمييز ويصلح لتعلق التكليف الإلهى بالنظر في أمر التوحيد وسائر المعارف الاصلية كاللوح الخالى عن النقش والكتابة غير مشغول بنقش مخالف فإذا أخذ في الطلب وشرع يثبت شيئا وينفى شيئا لغاية الحصول على الاعتقاد الحق والإيمان الصحيح فهو بعد في سبيل الحق لا بأس عليه في زمن يمر عليه بين الانتزاع من قصور التمييز وبين الاعتصام بالمعرفة الكاملة والعلم التام بالحق.
ومن ضروريات حياة الإنسان أن يمر عليه لحظه هي أول لحظه ينتقل فيها من قصور الجهل بواجب الاعتقاد إلى بلوغ العلم بحيث يتعلق به التكليف العقلي بالانتهاض إلى الطلب والنظر، وهذه سنة عامة في الحياة الإنسانية المتدرجة من النقض إلى الكمال لا يختلف فيها انسان وانسان، وإن أمكن أن يظهر من بعض الافراد بعض ما يخالف ذلك من أمارات الفهم والعلم قبل المتعارف من سن التمييز والبلوغ كما يحكيه القرآن عن المسيح ويحيى عليه السلام فإنما ذلك من خوارق العادة الجارية وما كل انسان على هذا النعت ولا كل نبى فعل به ذلك.